لا ننسى الحبيب الأول و دائماً نذكره و إنْ تقدم بنا العمرُ و مرت بنا السنون و السنون ، لأن قلوبَـنا لم تَـذُقْ طعمَ الحب إلا عندما قابلت ذاك الحبيبَ اللأول . .قبل الحبيب الأول كنا نسمع عن الحب و نُـشاهدُه نظرياً لا عملياً ، فلما قابلنا الحبيبَ الأول . . تغلغلَ ذلك الشعورُ الغريب العجيب بداخلنا ، فغمر قلوبنا أجمل و أسمى الأحاسيس . . " الحب "
فعرفنا كيف يكونُ الحب . .
عرفه القلب بنبضاته ، و البالُ بأفكاره و خطراتِـه ، و الجوارح برجفاتِـها ، و العينُ بنظراتِـها و عَبراتِـها . . فكيف ننسى الحبيب الأول !!
و لذلك قال الشاعر أبو تمام :
نَـقِـلْ فُـؤادَكَ حيثُ شِـئتَ منَ الهوى * * ما الحُـبُّ إلا للحَـبيبِ الأوّلِ
كم مَـنزلٍ في الأرضِ يَـألَفُـهُ الفتى * * و حنينُـهُ أبداً لأوّلِ مَـنزِلِ
لكن ماذا إذا جاءتْ رِياحُ الفراق و عَـصَـفَـتْ بنا و فرقتنا عن الحبيبِ الأولِ !! ، أيعني هذا أنَّ ربيعَ الحبِّ قد انتهى ، ولن يأتي على أرضِـنا !!
كلا . .
فقد يَـأتي " الحبيب المقبل " في آخر العمر أو مُـنتصفه لا في بدايتِـه . .
فالحبيب المقبل كالثمرة ، و الثمرة لا تأتي في بِـداية الزرع . .
بل تجد أنَّ النبتة تكون في بِـدايتها رقيقةً صغيرة ، تُـساعدُها الأرضُ بنموها و الماء في رَيِّ عطشها . .
و يأتي عليها الصيف و الخريفُ و الشتاء ، و تمر بها أيامُ المحنِ و العواصفِ و الجَـفاف ، إلى أنْ تَـكبر شيئاً فشيئاً و تَـقوى . . حتى إذا قدم الربيع جاءت الثمرة . .
و كذلك يُـثمِـرُ القلبُ بالحب ، فالحبيب المقبل كالثمرة . . تأتي في الأخير و تَـعيشُ مُـدللةً في الربيع ، في ربيع القلبِ وفي وَسَـطِه . .
و يكونُ حالُ الحبيبِ المُـقبلِ كما قالَ الشاعر :
مَـنْ لي بمِـثْـلِ سَـيْـرِكَ المُـدلّـلِ * * تَـمشي رُوَيْـداً و تَـجي في الأوّلِ
يقول الشاعر " ديك الجن " رداً على أبيات " أبي تمام " التي ذكرتُـها في بداية الموضوع :
كَـذَبَ الذينَ تَـحَـدّثوا في الهَـوى * * ما الحبُّ إلا للحَـبيبِ الأوّلِ
مالي أحِـنُّ إلى خَـرابٍ مُـقفِـرٍ * * دَرَسَـتْ مَـعالِـمُـهُ كأنْ لمْ يوهَـلِ
دَرَسَـتْ :معناها : انمحت واختفت
شبَّـهَ الحبيب الأول بالأرض الخربة التي انمحت آثارها
حتى كأنها لم تكُن مَـأهولة من قبل ، فكيف يحن
الإنسان و يَـشتاق إلى الخَـرابة
إرغَـبْ عنِ الحبِّ القديمِ الأولِ * * و عليكَ بالمُـستأنَـفِ المُـستقبلِ
نَـقِّـلْ فُـؤادَكَ حيثُ شِـئْـتَ فلنْ تَـرى * * كهَـوى جَـديدٍ أو كوَصلٍ مُـقبِـلِ
هذا رأي و فِـكر " ديك الجن " ، و يُـوافقهُ شاعرٌ آخر . . يقول :
إفخَـرْ بآخِـرِ منْ كَـلِـفْـتَ بحُـبّـهِ * * لا خَـيرَ في الحَـبيبِ الأولِ
أتَـشُـكُ أنَّ النبيَّ مُـحّـمَـداً * * سادَ البرِيّـةَ و هو آخِـرُ مُـرسَـلِ
و كلامُ هذا الشاعر مَـردودٌ عليه . .
صحيح أنّ حبيبَـنا محمد عليه الصلاةُ و السلام هو سيّـدُ البشرية ، لكن كيفَ نُـنْـكِـرُ فضلَ باقي الأنبياء قبله – عليهم جميعاً أفضلُ الصلاةُ و السلام – و ننفي الخيرَ عنهم ، فكيف ننكر خيرَ الحبيبِ الأول !!
و من قالَ أننا يجب أنْ نَـنْـسى الحبيبَ الأول إذا أحببنا بعده !!
كلا . . لا ننساه و لكن قد نُـحبُّ غيره مع بقاء حُـبه في قلوبنا و ليس هناك أي تناقض أو تَـعارض في هذا الأمر . .
فهذا حبيبُـنا عليه الصلاة و السلام كان أحب الناس إليه أمّـنا عائِـشة رضي اللهُ عنها ، لكن مَـنْ قالَ أنه نَـسيَ حُـبَّـهُ الأول . . حب أمّـنا خديجة رضي الله عنها ، فما زالَ حبها في قلبه حتى بعد موتها بسنين
و هذه الأم تُـحب مولودها الصغير لكن هل زالَ حبها لابنها الكبير !!
ففكري و منهجي في الحب " مع الحبيب الأولِ و المُـقبلِ مَـعاً " لا مع أحدِهما ضد الآخر . .
فالحب الحقيقي يَـبقى في القلب و لا يَـزول و إنْ طالَ الدهرُ أو قصر
إني هُـنا أتكلم عنِ الحب الحقيقي ، أما إذا خانَـنا مَنْ نُـحِـب فلا أقول أنَّ الحبَّ يَـزولُ مِـنَ القلبِ فحسب . . بل إنِّ حُـبَّـهُ يتحولُ بُـغضاً و كراهية . .
كيف لا . . و قد كانَ توأمَ الرّوح ، أما الآن . . فقد كَـسَـرَ الرّوح !!
فالخائن و الكاذب في حبه لا نعده أصلاً في خانَـةِ الأحبة بل جزاؤهُ أنْ نُـديرَ له ظهورُنا ، ونُـكمِـلُ المَـسيرَ في حياتنا . .
فهذا الشاعر الأندلسي " ابن زيدون " كان يُـحب " ولادَة بنت المُـسْـتَـكفي " و قد كتبَ فيها قصيدة تعد مِنْ أجمل قصائدِ الشعرِ العربي ، و هي قصيدة " أضحى التَّـنائي " . .
لكن عندما خانتْـهُ " ولادة " و عيّـرَهُ الناسُ بذلِك . . قال :
عَـيَّـرْتُمونا بأنْ قدْ صارَ يَـخلُـفنا * * فيمَـنْ نُـحِـبُّ ، و ما في ذاكَ مِـنْ عارِ
أكْـلٌ شَـهِـيٌّ أصبْـنا مِـنْ أطايِـبِـهِ * * بعضاً ، و بَـعضاً صَـفَـحْـنا عنهُ للفارِ
أي شبه مَـنْ خانتهُ بالأكل الشهي ، فلمّـا أكله
ألقى فَـضَـلات طعامه للفأر *
فالقصدُ أنّ الخائنَ لا يعد أبَـداً مِـنْ ضِـمنِ الأحبة . .